والي بغداد عيّن الرصافي معلماً وكان الجادرجي أحد طلابه

والي بغداد عيّن الرصافي معلماً للغة العربية وكان الجادرجي أحد طلابه


فاخر الداغري
الرصافي يسكن في جامع الحيدر خانة:
كنت في اول الامر ادرس في جامع الحيدر خانة وكنت اسكن في غرفة من غرف جامع الخاتون وبينما كنت في الدرس في جامع الحيدر خانة أخبرت بأن الغرفة التي اسكن فيها قد احترقت فذهبت حالاً ووجدتها محترقة وكان لي فيها بعض الكتب ، وكان يوجد فيها ايضاً كتب تعود الي السيد شكري الالوسي



اما موضوع الحريق في هذه الغرفة فقد أوقعه المدرس في ذلك الجامع المدعو جعفر أفندي الواعظ وهذا المدرس كان يتضايق من وجودي ومن جملة الاشياء التي احترقت دفتر يحتوي علي أوائل شعري التي لا أذكر منها شيئاً ُمطلقاً وكان من جملة الاشياء التي احترقت كتاب يعود الي شكري أفندي وهو كتاب " الشواهد " وبعد هذه الحادثة انتقلت الي جامع الحيدر خانة واخذت هناك غرفة للسكني فصرت أدرس في جامع الحيدر خانة وأسكن فيه في الوقت نفسه.
أما في هذا الجامع فلم اقض اكثر الليالي فيه بل أذهب الي دارنا وهناك أبيت في دار والدتي لان غرف جامع الحيدر خانة لم تكن صحية كما كانت غرفتي في جامع الخاتون وقبل ان أنتهي من دراسة الالفية باشرت بدراسة كتاب ( مغني اللبيب ) علي الشيخ عباس القصاب في جامع الشيخ صندل في جانب الكرخ بينما كنت اواصل الدرس في الوقت عينه لدي الاستاذ شكري أفندي الالوسي وهو كتاب السيوطي وفي الوقت عينه ايضاً كنت ادرس بعض كتب الفقه عند عبد الوهاب افندي النائب في جامع الخاتون الكبير الواقع في محلة عباس افندي او قنبر علي وكنت متصلاً بشكري أفندي اكثر من جميع هؤلاء المدرسين وكنت ملازماً له في اكثر اوقاته فلم اكتف بأتصالي به في الجامع بل كنت أذهب الي داره واجلس مع الجالسين في مجلسه اما اتصالي ببقية المدرسين فكان في وقت الدرس فقط.
الجادرجي: من أي مدرس استفدتم اكثر من غيره؟
الرصافي: من شكري أفندي الالوسي طبعاً لانه كان يعطيني كل فرصه لاجل الاستفادة منه فلم يكن يضجر من سؤالاتي واستفهاماتي المتكررة ، والحق كان شكري أفندي من المتضلعين في العلوم العربية من صرف ونحو وبلاغة وبيان وعروض وغير ذلك من العلوم العربية.
الجادرجي: هل استفدتم منه في نظم الشعر؟
الرصافي: لم استفد منه في نظم الشعر غير انه كان يشجعني علي الشعر حتي اذكر يوماً أني قد نظمت مقطوعة صغيرة في مدحه ولكن لم اذكر فيها اسمه ولما أنشدته اياها سر بها وصار يبين لي طريقة الشعراء في ذكر اسم الممدوح وأورد لي امثلة من الشعر مما يسمي بحسن التخلص.
الجادرجي: من الذي حبب اليكم الشعر؟
الرصافي: لا اذكر ان شخصاً حبب لي الشعر وقد سبق وان قلت لكم باني بدأت بالنظم بتقليد الالفية في نظم بعض الابيات من الرجز وكان عمري حينئذ لايتجاوز الـ15 سنة وقد بقيت مدة من الزمن انظم الشعر ولا اتقصد في اظهاره علي الناس ولكن بعد سنتين او ثلاث او اكثر قليلاً عندما بلغ عمري 18 سنة صرت أنظم بعض القصائد وكنت أعجب بها فصرت أطلع الناس عليها من اصدقائي ولم يكن بينهم من هو اكثر مني فهماً للشعر وكان في هذه القصائد شئ من المديح للاصدقاء وفيها غزل وفيها مقطوعة اخري ويوجد في ديواني الاخير بعض هذه المقطوعات واكثرها من الغزل كالمقطوعة التي تبدأ:
اسمعي لي قبل الرحيل كلاماً
ودعيني أموت فيك غراماً
الجادرجي: أي شعر كنتم تفضلون مطالعته او دراسته في تلك الايام؟
الرصافي: كنت الازم ديوانين اثنين المتنبي والمعري واقصد الزوميات من المعري واذكر شيئاً غريباً في هذا الصدد:
اذ مع أن ديوان المتنبي المطبوع كان لدي اخذت استنسخه بخطي ولا اتذكر باني اكملته اما لماذا قمت بهذا العمل فلا اعلم ذلك بالضبط والراجح كان لشدة اعجابي به وكنت اخذ من شكري أفندي بعض الكتب فأخذت منه خزانة الادب الكبري والعقد الفريد وغيرها من الكتب فأقراها وأعيدها اليه بعد قراءتهاوكنت انتفع من مكتبة شكري اذ اني لا أملك كتباً.
الجادرجي: من الذي تعرضون عليه شعركم للنقد؟
الرصافي: كنت أقرأ للسيد شكري أفندي شعري وكان يرشدني من حيث اللغة والاعراب وغير ذلك ، اما الاخرون الذين كنت اقرأ شعري عليهم فكانوا أقل مني من حيث اللغة لذلك لم اكن استفيد منهم.
وهنا أود ان أذكر حادثة طريفة وقعت لي مع مسعود افندي اخ شكري افندي الالوسي وكنت اتصل به دائماً لانه كان يسكن الجامع مثلي وفي يوم من الايام قرأت عليه بيتاً من الشعر فأعجب به وكتبه وبعد كتابته سألني عن قائله فلما قلت له أنا الذي نظمته ازدراه ومزق الورقة ورماها علي الارض فتأثرت كثيراً من هذا الحادث لكن لم أظهر تأثري ، وبعد أيام نظمت بعض الابيات فقرأتها عليه وقلت له هذا من شعر المتنبي فأعجب بها وبعد ذلك اخبرته انها لي فلم يقل شيئاً.
فقلت له هذه الجملة التي لاأنساها مطلقاً " انت ممن يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق " وكنت في هذا الدور في سن تجاوزت العشرين عاما وهكذا "استمررت" علي الدراسة حتي سن الخامسة والعشرين ادرس العلوم العربية التي تقرأ في المدرسة الدينية ولذلك اكون قد درست العلوم الاتية:
الصرف والنحو والبلاغة والبيان والعروض وكتب العقائد والكلام وأصول الفقه والحساب ايضاً في المدارس الدينية وبعد ان اكملت دروسي في المدارس الدينية وتجاوز عمري حسب ما اذكر خمسة وعشرين عاما عينت معلماً لاول مرة في مدرسة الراشدية وهي قرية تقع شمالي بغداد علي بعد عشر كيلو مترات من بغداد فبقيت سنة واحدة تقريباً ثم عينت معلماُ في مدرسة ابتدائية تدعي مدرسة جامع علي افندي وبعد ان بقيت في هذه المدرسة اقل من سنة شغرت وظيفة تعليمية في مندلي فقدمت امتحانا فنجحت ولكن كان من جملة المطالبين بها رجل من سكان مندلي فعين نتيجة التوسط ولكن الوالي لم يشأ ان يحرمني من وظيفة مماثلة لها فأمر مدير المعارف ان يجد لي محلاً فأقترح تعييني معلماً للغة العربية في مدرسة الاعدادي الملكي فعينت بتلك الوظيفة وكان ذلك حوالي ثلاث سنوات قبل الانقلاب العثماني ، وتعييني في هذه المدرسة يعتبر حياة جديدة بالنسبة لي لاني صرت اختلط مع الناس بينما كنت منعزلاً في الجامع.
الزمان / الصورة للشاعر الرصافي